الجمعة, 27 يونيو, 2025
تقرير اللقاء، من إعداد مسيره الدكتور سليمان وكيك الإدريسي؛
نظّم مركز الاقتصاد التشاركي المغربي يوم الخميس 26 يونيو 2025 لقاءً علميًا خصص لتحليل ومناقشة واحدة من أبرز الإشكالات التي تواجه الصناعة المالية الإسلامية المعاصرة، وهي إشكالية التورق الم
صرفي المنظم، وذلك تحت عنوان: “التورق المنظم ومنتجات التمويل الشخصي: تحليل اقتصادي ومحاسبي وشرعي”. وقد عرف هذا اللقاء مشاركة نخبة من الأساتذة والباحثين المتخصصين في فقه المعاملات المالية، والاقتصاد الإسلامي، والمحاسبة، والرقابة الشرعية، حيث دار نقاش علمي دقيق حول حقيقة هذا المنتج وممارساته في البنوك الإسلامية، ومدى انسجامه مع المقاصد الشرعية والمحاسبية والاقتصادية التي يُفترض أن تقوم عليها منظومة التمويل الإسلامي.
استُهل اللقاء بمداخلة الدكتور فياض عبد المنعم، أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، مستشار اقتصادي بدار الإفتاء المصرية ووزير المالية الأسبق، الذي تناول الموضوع من زاوية مقاصدية، مبينًا أن التمويل في الاقتصاد الإسلامي لا يُراد به مجرد تحصيل العائد، بل تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية الحقيقية، عبر الحفاظ على المال كوسيط للتبادل، لا كأداة لتوليد الربح من المال نفسه كما في الأنظمة الربوية. وانطلاقًا من هذا التحليل، اعتبر الدكتور فياض أن التورق المنظم، بصيغته المنتشرة حاليًا في المؤسسات المالية الإسلامية، لا يعدو أن يكون تحايلاً على روح الشريعة؛ إذ يُستخدم كأداة لتمكين العميل من الحصول على سيولة نقدية، من خلال عمليات بيع وشراء صورية لسلع لا يُقصد اقتناؤها أو الاستفادة منها، بل تُستعمل كوسيط شَكلي للحصول على النقد، مما يجعل هذه الممارسة مناقضة لمقاصد الشريعة في تشجيع التداول الحقيقي للسلع والخدمات ومنع احتكار الثروة. وأكد أن هذه الصيغة تُقوّض جوهر التمويل الإسلامي، وتدفع نحو طمس الفروقات بينه وبين التمويل الربوي، وتشكك في مدى التزام البنوك الإسلامية بالمنظومة القيمية التي يُفترض أن تميزها عن النظم التقليدية.
وفي ذات السياق، قدّم الدكتور الحسين سمحان، أستاذ ومستشار في التمويل الإسلامي ومحاسبته، وعميد سابق لكلية الاقتصاد بجامعة الزرقاء ومدير عام مؤسسة جنى الدولية، مداخلة فنية استعرض فيها الأبعاد المحاسبية والرقابية للتورق المنظم، بالاستناد إلى معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (AAOIFI). وبيّن أن هذه المعايير تشترط تحقق الملكية الحقيقية للسلعة من طرف البنك، بما في ذلك تحمّله لكافة التبعات القانونية والمالية المرتبطة بها من خسائر أو ضرائب أو تلف، قبل بيعها للعميل بثمن مؤجل. كما تشترط المعايير أن يتم القبض الحقيقي للسلعة من قبل العميل، سواء بشكل حسي أو حكمي، بحيث يكون بإمكانه تسلمها أو التصرف فيها. غير أن الواقع العملي، كما أشار الدكتور سمحان، يكشف عن ممارسات مخالفة لتلك الضوابط، حيث يتم تجاوز هذه الشروط إما بتجاهل التملك الحقيقي للسلعة، أو بتفويض البائع في إعادة بيعها لطرف ثالث دون أن يراها العميل أو يتحقق من تفاصيلها. وأوضح أن هذه الممارسات تُفرغ المعايير من مضمونها، وتحوّل التورق إلى عملية تمويل نقدي عبر عقود شكلية لا تحقّق أي تداول فعلي، بل تُنفذ ضمن دائرة مغلقة لا تخضع للضوابط الشرعية أو الرقابية بشكل فعّال، مما يستدعي مراجعة جادة للتطبيق العملي وضبطه برقابة حقيقية لا صورية.
كما قدّم الدكتور عز الدين فكري، أستاذ المحاسبة بكلية التجارة بجامعة الأزهر وعميد كلية الإدارة الأسبق بالجامعة الحديثة بالقاهرة، مداخلة تحليلية تناول فيها التصميم العملي لمنتجات التمويل بالتورق، مبرزًا أن العملية البنكية عادةً ما تبدأ بشراء البنك لسلعة من مورد معين، يكون في الغالب شريكًا دائمًا له، ثم يقوم ببيعها للعميل بثمن مؤجل، ليُفوّض هذا الأخير البنك أو جهة أخرى ببيعها نقدًا، وغالبًا ما تُباع لنفس المورد الأصلي. وأوضح الدكتور فكري أن هذه العملية لا تُحقق البيع الحقيقي، لأن السلعة لا تُقصد لذاتها من أي طرف، ولا توجد رغبة فعلية في اقتنائها أو الانتفاع بها، بل تُستخدم فقط كأداة لتوليد النقد، وهو ما يُفقدها قيمتها الاقتصادية والشرعية. واعتبر أن هذه الممارسة، رغم استيفائها الشكل الظاهري للعقود، تفشل في تحقيق المقاصد الشرعية، وتُستغل كغطاء قانوني للحصول على قرض بفائدة، مما يُفرغ الصيغة من معناها، ويُحوّل التمويل الإسلامي إلى وسيلة ترويجية خالية من الجوهر، تُعرّض صدقيته للاهتزاز في نظر المتعاملين.
وفي مداخلة فقهية مؤسسية، تناول الدكتور حمزة عدنان مشوقة، رئيس قسم المعاملات المالية في دائرة الإفتاء الأردنية، الموقف الفقهي من التورق المنظم، مستعرضًا أهم قرارات المجامع الفقهية، وعلى رأسها قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الذي اعتبر التورق المنظم بصيغته المنتشرة غير جائز شرعًا، نظرًا لكونه تحايلاً على الربا، وافتقاده للشروط الجوهرية للبيع، وعلى رأسها القصد الفعلي لاقتناء السلعة. وأكد الدكتور مشوقة أن المجامع الفقهية لم تقتصر على تحليل الشكل الظاهري للعقود، بل تبنت منهجًا مقاصديًا عميقًا في إصدار أحكامها، معتبرة أن هذه الصيغ لا تحقق أهداف التمويل الإسلامي، بل تفتح الباب أمام الالتفاف على الشريعة بأدوات ظاهرها حلال وباطنها ربا. وأشار إلى أن الإشكال الأعمق لا يكمن فقط في المنتجات المالية، بل في أداء بعض الهيئات الشرعية داخل المؤسسات المالية الإسلامية، والتي أصبحت تميل إلى التيسير المفرط وتبرير الممارسات التجارية بحجة المصلحة، حتى لو أدى ذلك إلى إفراغ العقود من مقاصدها. وشدد على ضرورة إحياء الاجتهاد الجماعي وتعزيز استقلالية الهيئات الشرعية والرقابية لتكون قادرة على مراقبة الواقع المالي بوعي ومسؤولية.
وقد اختُتم اللقاء بمداخلة للدكتور هشام أيت السي علي، رئيس المركز المغربي للاقتصاد التشاركي، قدّم من خلالها قراءة تحليلية وتفكيكية لاتفاقية التورق المنظم، كما يُمارس اليوم، وأكد أنه مجرد منح سريع لمال بمال مغلف بصيغة مرابحة أو بيع تقسيط صوريين، حيث إن السلعة مجرد وسيلة للإقراض، بلا ملكية حقيقية، بل وقد تكرّر بعض البنوك بيع نفس السلعة لعدة عملاء دون تغيير فعلي في الملكية. وأشار إلى أن غياب الشفافية والمساءلة داخل البنوك، وضعف تكوين الهيئات الشرعية وخضوعها للتعيين والفصل والأجرة من البنك، ينتج مثل هذه التطبيقات المشوهة تنظيرا، ويجعلها بعيدة عن الفتوى المستقلة، مما يكرّس انحرافا عن روح التمويل الموافق مع الشريعة. وخلص إلى أن التمويل الإسلامي ليس مجرد واجهة تسويقية، بل منظومة قيمية تقوم على العدالة والتكافل والارتباط بالاقتصاد الحقيقي، داعيا إلى تجاوز الحلول الشكلية واعتماد منتجات تمويلية ترتبط بأنشطة إنتاجية فعلية وتخضع لرقابة متجردة.
وفي ختام اللقاء، أجمع المتدخلون على أن التورق المنظم، بصيغته الحالية، يمثل تهديدًا حقيقيًا لمصداقية المالية الإسلامية، وأن استمراره دون مراجعة جادة سيؤدي إلى انفصام خطير بين الشكل الشرعي والواقع الاقتصادي. وأوصوا بفتح ورش نقدي علمي عميق لمراجعة صيغ التمويل القائمة، وفي مقدمتها التورق المنظم، وبضرورة اعتماد منتجات مالية تحقق التمكين المالي الحقيقي دون المنتجات الصورية، وتعزيز استقلالية الأطر الرقابية لتكون ضميرًا حيًا يحمي منظومة التمويل الإسلامي من التمييع والانزلاق نحو مجرد تكرار للنظام الربوي بأدوات جديدة.
لمشاهدة اللقاء:
المركز المغربي للاقتصاد التشاركي، مركز مستقل غير ربحي، تأسس سنة 2019 بمدينة أكادير، من قبل مجموعة من المتخصصين والمهتمين بالاقتصاد والمالية التشاركية، منتسبين لمجالاته الثلاث؛ الفقه والاقتصاد والقانون. وتكمن رؤيته في الإسهام في التعريف بمقتضيات الاقتصاد التشاركي وإبراز دوره التنموي في شموليته، والوعي بخصوصياته التأصيلية وسياقاته التنزيلية وتطبيقاته المعاصرة.