اﻷحد, 27 يوليو, 2025
د. سعيد الستاتي
أستاذ باحث بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس، الكلية المتعددة التخصصات بالرشيدية
ذ. محمد اليمني
باحث بسلك الدكتوراه، تخصص القانون العام والعلوم السياسية
جامعة محمد الخامس، الرباط، كلية الحقوق بسلا
مقدمة:
تعتبر مؤسسة الوقف من المؤسسات المتجذرة في التراث الإسلامي، حيث خصص لها الفقه الإسلامي جانبا كبيرا من اجتهاداته عبر مختلف المصنفات الفقهية. ولذلك، فإن هذه المؤسسة تجد تجدرها لدى الفقه بدرجة أولى، مادام أن لها طابع اجتهادي في تنظيم أحكامها وقواعدها.
ويتخذ الوقف، بصفة عامة، ثلاثة أنواع أساسية: الوقف العام، ويتم لفائدة جهة من جهات البر والإحسان بحيث لا يكون الموقوف عليه شخصا معينا بذاته، كالمساجد والمستشفيات، والوقف المعقب أو كما تسميه بعض التشريعات الوقف الذري أو الأهلي، وهو ما حبس على أشخاص معينين كتحبيس الإنسان عقار يملكه على أولاده وأولادهم ما تعاقبوا أو على أولاد غيره وأولاده ما تعاقبوا، والوقف المشترك، ويشكل مزيجا بين الوقف العام والوقف المعقب.
ولئن نظمت مدونة الأوقاف، في بابها الأول، كيفية إنشاء الوقف وأركانه وشروطه وآثاره وحددت القواعد المشتركة بين مختلف أنواعه، فإن الوقف العام والمعقب بصفة خاصة، يختلفان عن بعضهما في مجموعة من الأحكام والتصرفات الواقعة على كل نوع منهما، سواء تلك المرتبطة بالجهة المكلفة بتدبيرهما والمحافظة عليهما أو إبرام التصرفات القانونية وغيرها من نقاط الاختلاف والتمييز.
إن الوقف المعقب ليس وليدا للعصر الحديث والمعاصر، فوجوده كان متزامنا مع الحضارات القديمة، حيث عرفته الحضارة المصرية القديمة والرومانية، وإن كان بتسميات مختلفة. غير إنه وفق الاصطلاح الحالي، لم يظهر إلا مع الفقه الإسلامي الذي حاول وضع مبادئه وتقنين أصوله.
هذا، وقد ظهرت هذه المؤسسة في المغرب مع الأدارسة، وترسخت قواعدها ومبادئها تبعا لأحكام الفقه الإسلامي، خاصة أحكام الفقه المالكي. ولعل ذلك، يدخل في إطار المنظومة العامة للشريعة الاسلامية المبنية على أساس التكافل الاجتماعي بين المسلم الميسور وذوي القربى وعقبه[2]، استنادا وتأصيلا للحديث الشريف: "...إنك أن تذر ذريتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس...".
وإن كان الوقف المعقب بالمغرب، قبل الخضوع للحماية الفرنسية، خاضعا في تنظيم أحكامه للفقه الإسلامي، فإنه بدخول الحماية صدرت مجموعة من النصوص القانونية التي شكلت أرضية صلبة لتدبير هذا النوع من الأوقاف، منها على الخصوص ظهير 13 يناير 1918 المتعلق بمراقبة الأحباس المعقبة، وظهير 18 يوليوز 1920 المتعلق بكرائها ومعاوضتها، والمنشور الصادر بتاريخ 14 أكتوبر 1932 بشأن الأحباس المعقبة التي لا مرجع لها. لكن، وبالنظر للمشاكل التي ترتبت عن تدبيره، فقد أصبح أحد العراقيل الأساسية للتداول العقاري، بل وفي أحيان أخرى، ظل عائقا في إنتاج الثروة لما رتبه من تقاعس عن العمل واتكالية بين أفراد العائلة في استثمار ثروة عقارية مهمة. مما أدى إلى انتقاد كبير وشديد لهذه المؤسسة، أفضى إلى إصدار ظهير 8 أكتوبر 1977،الذي نظم مسطرة تصفية الأحباس المعقبة والجهات الساهرة على ذلك، أعقبها صدور مدونة الأوقاف[2] بتاريخ 23 فبراير 2010 والتي أعادت تنظيم تصفية الأوقاف المعقبة، في إطار تنظيم شمولي لمنظومة الوقف عامة.
إن الظاهر، من خلال مدونة الأوقاف، أن المشرع وإن كان قد نظم مسطرة خاصة بالتصفية، فهذا لا يعني البتة أن المشرع ألغى إنشاء أحباس معقبة جديدة، كما ذهبت إلى ذلك بعض التشريعات، بل إنه حافظ على هذا النظام وتشبت به لما له من أهمية عميقة في نفوس المغاربة. وبذلك، فإن المشرع لم يسلك بشأن الوقف المعقب مسلك الإلغاء كما ذهبت بعض التشريعات المقارنة كالتشريع المصري، والتركي[3]، بل وضع آليات وقواعد قانونية ترمي إلى تطويعه وتفادي مشاكله، من بينها تحديد طبقات الموقوف عليهم، وفتح إمكانية تصفيته وإنهائه كلما لزم الأمر ذلك وفق الظروف والأحول كما نظم أيضا رجوع الواقف عن وقفه.
لكن، وعلى الرغم من الاهتمام التشريعي الذي حظيت به الأوقاف من خلال وضع الضوابط والآليات القانونية الخاصة بتنظيم الأوقاف، فإن ذلك لم ينعكس بشكل إيجابي على وضعية الأوقاف المعقبة، حيث ترك التصرف فيها لفائدة أعقاب المستفيدين منها على الكيفية المنصوص عليها في لفظ التحبيس (رسم التحبيس المعقب)، وذلك دون أن يتم سن أي مقتضيات خاصة بها تراعي وتحافظ على خصوصيتها، لتظل خاضعة لما تخضع له الأوقاف العامة من ضوابط وقواعد.
ومنه، أصبحت الأوقاف المعقبة خاضعة في إدارتها وتسييرها لتصرف المستفيدين منها وفق شروط الواقف، ووفقا لضوابط التصرف وتنظيم الأوقاف العامة ولأحكام الفقه الإسلامي. هذا، في الوقت الذي كانت تخضع فيه لقواعد وضوابط متماهية مع طبيعة النظام القضائي والقانوني الذي ظل يحكمها سواء على مستوى التصرف أو على مستوى آليات المراقبة والحماية.
ويظهر من كل ذلك، إن الأوقاف المعقبة لم تكن خاضعة لنظام قانوني موحد، بل كانت تخضع لنظام قانوني يطبعه التعدد والاختلاف وعدم الانسجام، مما أدى إلى ظهور العديد من المشاكل الاجتماعية على مستوى الواقع كانت بحق من أكبر معيقات المحافظة على هذه النوعية من الوقف، رغم تدخل المشرع بموجب ظهير 08 أكتوبر 1977،في محاولة منه لسد بعض الهفوات التشريعية. لكن مع ذلك، ظلت مقاربته لطبيعة المشاكل التي عرفتها هذه الأوقاف قاصرة عن حل اشكالاتها ونتائجها جد محدودة.
ولعل كل هذه العوامل وغيرها، المتعلقة بطبيعة النظام القانوني الذي يحكم الوقف المعقب في المغرب، وانعكاساته على وضعية هذه الأوقاف، سلطت الضوء على جانب مهم مظلم لهذا الوقف، الذي عاش ولا يزال يعيش في فراغ تشريعي وتدبيري قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه خاصة سلوك مسلك الإلغاء كما ذهبت إليه بعض التشريعات المقارنة كالتشريع المصري والتونسي والتركي.
للاطلاع على المقال كاملا:
المركز المغربي للاقتصاد التشاركي، مركز مستقل غير ربحي، تأسس سنة 2019 بمدينة أكادير، من قبل مجموعة من المتخصصين والمهتمين بالاقتصاد والمالية التشاركية، منتسبين لمجالاته الثلاث؛ الفقه والاقتصاد والقانون. وتكمن رؤيته في الإسهام في التعريف بمقتضيات الاقتصاد التشاركي وإبراز دوره التنموي في شموليته، والوعي بخصوصياته التأصيلية وسياقاته التنزيلية وتطبيقاته المعاصرة.